موريتانيا بقلم: أحمد مبارك البريكي
شاطىء النوق
شاطىء النوق، أو (نواكشوط).. هذا دخول جديد، هي عاصمة جمهورية موريتانيا الاسلامية وأحد مدنها الكبيرة الأربع. والمدينة تسمى في اللهجة الحسنية (دشرة) هكذا أخبرني ابراهيم واخبرني كثيراً من الأشياء.. فموريتانيا بلد لحفّاظ القرآن الكريم، يقرأه الصغار حينما يبلغون من العمر أربع سنوات ويتمونه خلال سنتين أو ثلاث.. و يكتبونه على لوح خشبي بحجارة الفحم.. والصمغ العربي، وعندما يحفظون جزءً منه يُغسل اللوح ويشرب ماؤه، يقال بأنها طريقة صحية و روحية تعني مكرمة عظيمة عند الموريتانيين، و موريتانيا اسم أعجمي جاء من مقطعين أمازيغيين (موري) وتعني البيضان و (تاني) وتعني بلاد.. وهي بلاد البيضان، مرادفةً لبلاد السودان في الشرق.. و يعتبر علم الجمهورية أحدث أعلام العالم تعديلاً بعد اضافة خطان أحمران في الأعلى والأسفل حدث ذلك قبل سنتين، وبقي الجزء الأوسط أخضراً كما كان فيه نجمة وهلالاً أصفران يرمزان إلى الاسلام، و الأحمر أضيف إلى الأخضر والأصفر.. ليكتمل مثلث ألوان أفريقيا التي تنتمي موريتانيا لقارتها.. وللشعب هنا نشيد وطني يعتزون به غريب بعض الشيء لكن هو النشيد الوحيد الذي يتضمن آية كريمة من القرآن . ومن المذكور عن هذا النشيد بأنه كان يردد كمواعظ في السنوات ما قبل الاستقلال وألّفه (بابه ولد الشيخ سيديا).. واستخدمه الناس عند ثورتهم للتحصل على الإستقلال من فرنسا نهاية الخمسينيات.. تقول كلماته: ..كن للاله ناصراً..وأنكر المناكرا.. وكن مع الحق الذي يرضاه منك دائرا..ولا تعد نافعا.. سواءه أو ضائرا..واسلك سبيل المصطفى..ومت عليه سائرا..فما كفى أولنا..أليس يكفي الآخرا..وكن لقوم احدثوا..في أمره مهاجرا..قد موهوا بشبه..واعتذروا معاذرا.. وزعموا مزاعما.. وسودوا دفاترا..واحتنكوا أهل الفلا..واحتنكوا الحواضرا..وأورثت أكابر..بدعتها أصاغرا.. وإن دعا مجادل..في أمرهم إلى مرا..فلا تمار فيهم..إلا مراء ظاهرا.
شنقيط نفحة التاريخ..
شنقيط دار الرباط، و حكم المرابطين، و عاصمةٌ من عواصم الدنيا. صباح يُخلق من جديد.. أرتدي دراعة موريتانية زرقاء كصفحة بحيرة أندلسية، يتدرعها الرجال هنا ويفضلونها على البيضاء لتحملها البقع والعوالق البسيطة. و في اللهجة الحسّانية العامية يعرّفون اللون الأزرق.. بالأخضر. تمشية مع انسكاب الشمس على رمال المدينة الحمراء، و جدرانها الطوبيّة المركبة بموزاييكية فريدة، أقصد منارة مسجد شنقيط القديمة، والتي تعتبر أيقونة تاريخية توسم بها المدينة في كل وقت حتى باتت صورتها على صدر العملة ذات الألف أوقية، و الأوقية هي عملة موريتانيا ويساوي الدولار مقابلها بثلاثة آلاف وخمسمئة أوقية بعد إزالة الأصفار الألفية. هذه المئذنة وتلك المكتبة التي تكنز في غرفها البدائية، أعظم المخطوطات و نوادر الكتب.. و ألواح الكتابة الأثرية، مثل كتاب ابن خلكان والترمذي و ألفية ابن مالك و بعض المخطوطات القرآنية التي يعود بعضها لزمن المرابطين. قابلني في المكان مسئول المكتبة السيد سيف الإسلام وهو شيخ جميل اللسان واسع العقل مدبّر الكلام.. و ذو حكمة و تجربة، تحدث كموسوعة فتحت في كل أمر شرّق و غرّب.. سألني هل أنت شاعر؟.. أجبته: لم أكن ولست بشاعر إنما أسعى بأن أكون شيئاً. أعجب بهذا الرد وجعل يردده كلما تنقل بحديثه في أسماعنا. أهديته كتابي و تمنيت أن يحتفظ به في المكتبة ليكون لي ومضة ضئيلة في كون مضيء. وعند توديع المكان المملوء بالعبق و ذكريات الفاضلين تركت كلمات في سجل الزوار:.." شنقيط يا بلاد العِلم والحفظة.. والتاريخ، يا إشعاعةً في صدر الزمان.. منك ظهرت شمسٌ، وفيك سكنت أقماراً".. التمشية بين جنبات البيوت الحجرية شيء جميل و لايضاهى بمثلها في المدن الفارهة، فالمكان هنا على سجيته والناس، و الريح تذرو المرو بنثرٍ غير مؤذٍ على أقل حال في هذا الصبح الشبطيّ اللطيف. بين الواحات هناك حيزٌ كبير للنفس، و تعاظم الكثبان لها وقع في الروح التي تنشد الإختلاء. و العزلة عن أدران الحياة الرتيبة، هذه منارة جامع مهجور، و واحات ونخيل. وخطى حافية و تأمل في الغروب فوق نعومة المنظر و الرمال. جاء الليل بدعوة من سكان البلدة لحضور سهرة صوفية في مدح الرسول الكريم، فلبيتها ممنوناً وشاكراً.. فكانت الأناشيد والغناء الروحاني على وقع الطبول والآلات الوتريّة، والصوت المناجي وسط لمّةٍ سعيدة حضرها الصغار والكبار.
في الدرب إلى شنقيط
هذا الصبح يحمل نسمات شنقيط، تلك البلدة التي اقترن ذكرها بالعِلم و حفظة القرآن.. والمخطوطات المكنوزة منذ عهد المرابطين، إذاً سأضرب في عمق الصحراء الكبرى. وتلك غايتي.. ساعات الطريق من نواكشوط إلى شنقيط.. طويلة على دروب ترابية وصخور حادة و تلال تتعالى عليها السيارات، وأخرى معبدة ذات اتجاه واحد تمتحنها سفي الرمال و خطر الجِمال.. في ثلث المسافة تصدفني قرية (أكجوكت) الأمازيغية لتكون فاصلة استراحة ألتقط فيها النفس قبل المواصلة.. فاستطعت خلال دقائقها التقرب من أناس القرية و التحدث إليهم.. والتعرف على حياتهم.. والتريض بين بيوتاتها الطينية الملونة. لأستأنف المشوار بعدها، الأرض تبدّل وشاحها و التضاريس تتغير مع مرور الوقت وعجلات مركبة (التويوتا) ذات الدفع الرباعي ، فمن أودية مستوية مبسوطة يسمونها الموريتانيين (الأرض الطرحة) إلى جبال صخرية و أخاديد و نوابي.. حتى حططت الرحال بمدينة (أطار) وهي مركز تاريخي مهم، و مزار للسواح خاصة الفرنسيين الذين يقدمون إليها مباشرة من باريس عبر مطارها المحلي الصغير، الغداء في (أوبيرج) بسيط، وهو بيت ذا حوش فسيح زرع بالخيم البدوية و ممرات مزروعة بالشتلات و النخيل وتديره سيدة فرنسية ومعها أخريات من موريتانيا، بعد الغداء النباتي والأرز الأبيض الخالي من الملح، قدموا إليّ شراب (التاجمخت) و قد استلذيته و سألت عن محتواه فقيل بأنه يعمل من مزيج من الزنجبيل والحليب والماء و بعض الفاكهة. أتجول في أرجاء أطار وتسقط أنظاري على مسجد قريب فرغبت تصويره لألوانه المتزاهية المميزة، وجدت أنه بُني بأيادٍ كويتية كريمة و قد لصق علم الكويت على أحد جدرانه. تحركت إلى شنقيط بعد ساعتين من الوقت.. والقيعان تتعاظم رمالها، و (الدبّايات) أو الخط الرملي يتسع وتزداد فيه الكثبان، و العلامات الإرشادية ترتكز يمينا ويساراً ترشد إلى حيث شنقيط.. وفي وقت الزوال وقبل البروز الأخير لشمس هذا اليوم، تبدو من بعيد المدينة ببيوتها الحجرية و تلال الرمل تؤطرها من كل جهة.. فأتحرك إلى كثبان عظيمة على حد المدينة لمشاهدة الغروب البديع و إلتقاط لحظاته، قبل الذهاب إلى النزل وهو بيت مبني من الحجارة الصحراوية، كحجرات الكهوف، وقد هُندست جدرانه على شكل زوايا قصبة أندلسية. استقبلني أصحابه بشاي (الأتاي) وعشاء من الخبز و الخضروات واللحم، و في هجير الليل أطفئت الأنوار فأضاءت النجوم.. وسطعت.
لحظات قبل وداع أرض الشعراء
لأرض موريتانيا سحر يسكن الخطّار.. لا أعرف سر هذا الانتماء الجميل الذي وجدت نفسي فيه وأنا أجوب هذه البلاد وأتحدث مع ناسها اللطفاء.. في قرية (اكجوجت) وهي مأخوذة من اسم أمازيغيّ، تحدثت لمجموعة من أهلها عند حانوت صغير، سألتهم هل تعرفون الكويت؟. أجاب كل منهم بما يعرف عن هذه البلاد العربية البعيدة عنهم، لكنها قريبة منهم عطاءً و سنداً.. يقول أحدهم بأن الكويت ما أن يذكر اسمها حتى يرادفه الخير و العون ومساعدة موريتانيا. أتذكر أنهم طلبوا مني شيئاً من الكويت فقمت بتوزيع أعلاماً عليهم وكثيراً من التحيات. فوق سطح لبيت بائعة المربيات، امرأة فرنسية أحبت (شنقيط) فاختارتها مأوىً لسكن وتجارة لما تتقنه، وجدت أنها متميزة بصنع مربى التمر، بيتها طيني كبيوت المدينة متجمل بالأزهار و بسيط، ارتقيت سلالمه للسطح فبانت من هناك بيوت شنقيط المتناثرة كخرزاتٍ مبثوثة في قماشة الصحراء، منظر يستدعي الكاميرا لتحفظه. على كثيب عالٍ كجبل من التراب، استلقيت وقت الغروب بجانب مئذنة قديمة وجامع مهجور و واحة رطيبة.. أفقي سماء و صحراء متعاظمة.. هنا يستجم الفِكر، و تتدبّر الروح، و يُجلى تعب المرتحل.
بقلم: أحمد مبارك البريكي
Instagram: @qdeem